الصيف في النمسا إحساس أخر ، طبيعة بجمال يسحر الأبصار طقس مشمس إضافة إلى المسرح العائم كونها بلد الثقافة والفن لما لا وهي بلد الموسيقي العالمي موتزارت .
المعروف عن النمسا أنه بلد يسعى دائما لابتكار برامج سياحية وثقافية تعتبر مصدرا من مصادر الدخل الأساسية لخزينة الدولة، كما تكسب البلاد الكثير من الإبداع والتفرد والتنوع.
اليوم مع عالم المسافر سنحط الرحال في مدينة بريغنز عاصمة إقليم فورالبرغ أقصى غرب النمسا تقع هذه المدينة في مفترق طرق ما بين مجرى نهر الراين وأودية جبال الألب الألمانية على سفح جبل فاندر مواجهة لشاطئ بحيرة كونستانس أو بودن سي، والتي تعتبر ثالث أكبر بحيرة في منطقة وسط أوروبا.
مدينة بريغنز عرفت بتنظيمها صيفيا لواحد من أروع المهرجانات مهرجان يحول المدينة بأسرها إلى قاعات مسرحية ضخمة أكبرها عائم مفتوح وأخريات عريقة فخمة، بالإضافة لمسارح بسيطة صغيرة تنتشر على أرصفة ودروب جانبية للهواة وصغار المبدعين.
نحن سنسلط الضوء على ذاك المسرح العائم حيث يعتبر هذا الأخير مسرحا مميزا ليس في بريغنز فحسب أو أوروبا فقط بل عالميا لكونه مسرحا شيدت خشبته فوق المياه فطفا عائما مما جعله مزارا معماريا وسياحيا حتى وهو خال من أي عروض.وكثيرة هي المسرحيات والعروض التي تم تقديمها فوق خشبة مسرح بحيرة كونستانس العائم مما أكسبه سمعة كونه أرضية مخصصة لتقديم عروض أوبرالية وباليه وموسيقية راقصة يتم تقديمها وفق رؤى جديدة وديكور خيالي ضخم ومميز على خلفية مائية.
ومن أهم العروض التي اقيمت على المسرح العائم ببريغنز على سبيل المثال أوبرا «عايدة» لفيردي في عامي 2009 و2010 وأوبرا «توسكا» لبوشيني في عام 2008 و2007 وأوبرا «لا بوهيمي» لبوشيني 2002 في عامي و2001 وأوبرا «المزمار السحري» لموتزارت وغيرها وقد حظي كل عرض بديكور كان مثار الإعجاب والتعليقات. وجدير بنا أن نشير هنا إلى أن برنامج المهرجان يسعى للتنوع ولذلك تقدم دار أوبرا بريغنز سنويا عروضا مسرحية وغنائية حديثة وجديدة غير معروفة، ويتم كل ذلك وفق اتفاق محدد يسعى لإتاحة الفرص للجميع ولإرضاء كافة الأذواق والرغبات.
وأكثر ما يميز هذا المسرح العائم بجانب خشبته، كبر مساحته إذ يستوعب 7 آلاف مقعد تم تثبيتها فوق بقعة الأرض اليابسة مواجهة لشاطئ البحيرة على شكل نصف دائرة، فتبدو وكأنها على وشك أن تحتضن تلك الخشبة فيما هي مطلة على الضفتين الألمانية والأخرى السويسرية حيث تتقاسمان البحيرة مع النمسا.
وإذا قررت الحضور إلى احدى عروض المسرح فلا يشترط منك التقيد بأزياء سهرة أو بملابس رسمية وعلى عكس نهج معظم المسارح النمساوية .
كيف كانت فكرة مهرجان بريغنز ؟
في عام 1946 بعد نهاية الحرب العالمية الثانية قرر مجموعة من مثقفي وفناني المدينة (ممن اكتووا بنيران الحرب التي دمرت النمسا لا سيما معنويا سعيا لخلق روح جديدة في مدينتهم وبلادهم عموما لعلها تعيد للسكان سابق بهجتهم) إنشاء عروض مسرحية رغم أن بريغنز على وجه الخصوص لم يكن بها مسرح فاختارو موقع في وسط ساحل البحيرة لا يبعد إلا بضعة أمتار عن قلبها ومركزها بدا لهم كشطرين وضعوا في أحدهما الفرقة الموسيقية وفي الآخر وقف الممثلون مقدمين أجمل عرض لأوبرا باستيني وباستيني لموتزارت والذين قدموه كعمل نمساوي بحت صاحبته بالعزف أوركسترا فيينا السيمفونية.
و في عام 1985 شكل الديكور الذي صمم لأوبرا «المزمار السحري» نقطة البداية لنصب الخشبة العائمة ومنها تطور الأمر بإدخال تعديلات وديكورات ضخمة ومكلفة مما استدعى الثبات على عرض لكل موسمين على التوالي بدل التغيير والتجديد كل عام، خاصة أن الديكورات أصبحت تتطلب ميزانيات كبيرة وتصميمات فنية وتقنية عالية فاتفقوا على عدم إزالتها بل الحفاظ عليها لمهرجانين، خاصة أن جمالها ودقة صنعتها تظل بمثابة قطب صامت يجذب الزوار والسياح في الفترة ما بين المهرجانين حتى من دون عروض حية وممثلين وجمهور.
أوبرا مهرجان العام الماضي كان أيضا نفسه تابعا لسنة التي سبقتها يعني أن هذه السنة سيكون ديكور جديدا في هذا الصيف بدءا من 19 يوليو حتى 18 أغسطس القادمين.
لمحة عن ديكور العام الفارط :
ديكور العام الفارط كان لأوبرا «أندريه شيينيه» للمؤلف الإيطالي أمبرتو جيورادانو وتحكي أحداث دراما معبقة بتراجيديا تاريخية لمقاطع أحداث من الثورة الفرنسية. تم تصميم الديكور مستمدا من لوحة فنية معروفة بريشة جاك لويس ديفيد بعنوان: «موت مارات»، تخيل فيها الرسام موت الصحافي الفرنسي جون بول مارات طعنا داخل حمامه بيد خصم سياسي عام 1793.
وللمسرحية تم تجسيد رأس مارات مع جزء من صدره فوق خشبة المسرح في مجسد إنساني ضخم (24 مترا) وكأن البحيرة هي حوض الحمام الذي قتل داخله فيما نصبت على الجزء الآخر من الخشبة مرآة ضخمة لتكملة ديكور غرفة استحمام. جاءت أوبرا «أندريه شينييه»، كما وصفها النقاد نهاية الموسم الماضي كملحمة فاقت في روعتها الأعمال الموسيقية إنتاج هوليوود ورغم أن مهندس الديكور والمخرج ومهندسو الصوت والإضاءة وبقية الفريق حينما وضعوا لمساتهم الأخيرة كان في مخيلتهم، دون شك، جمهور عريض يستمتع بصنعتهم مصحوبة بمكونات الأوبرا الأخرى من أحداث درامية وتراجيدية وموسيقى تصويرية ومارشات للثورة الفرنسية وملابس الممثلات الضخمة وباروكاتهن ومكياجهن، رغم غياب كل ذلك، فإن مشهد المسرح فارغا إلا من الرأس الضخم والمرأة والصحيفة ما زال يبعث الدهشة والإعجاب.
هذه بعض الصور لهذا المسرح :